الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

جدار وعورتان

جدار وعورتان

كذلك تعودناها .. صامتة .. حزينة .. لا تتحدث عن نفسها .. قلما يتحدث عنها الآخرون ، تكاد الخطوط المحفورة في وجهها توجد وجها فوق الوجه .. تعودنا عيناها المعلقتان دائما بشيء ما في الفراغ .. وجدارا تبنيه بصمتها بينها وبيننا شاهق كالناطحات .. كان الجميع يعرفونها
- ففي قريتنا يعرف الكل .. الكل
ولكنهم دائما عديمي الاكتراث بكونها موجودة أم لا
وأيضا يعرف الكل أنها كانت تسكن هي وأخوها الذي يصغرها بأعوام خمسة في غرفة على أطراف القرية بالقرب من مجرى الماء الوحيد لدينا
- في قريتنا لم تعد هناك بيوت قديمة أما غرفتها فالتهمتها الشقوق كقلبها الذي لم يعد فيه ركنا خال ٍ
كانت تعمل في كل بيوت القرية .. تساعد النساء في شراء ما يلزمهن وترعى كل الأطفال بجانب رعاية أخيها
ورغم صمتها وحزنها الدائمين لم أرها تبكي .. حتى عندما سقطت يداها في الزيت المغلي .. لم تبك ِ
- في قريتنا لا توجد محلات فاخرة وإنما هي دكاكين تصنع بها الأطعمة البسيطة
كانت تنتظر دورها في شراء الفطائر من سيدة الدكان التي دائما ما تجلس على الأرض وتضع انية الزيت أمامها لتصنع الفطائر وتوزعها على الطالبين .
همت الصغيرة للتقدم من سيدة الدكان فلم تسلم من الازدحام وتعثرت بجلباب إحدى النساء فمالت إلى الأمام حاولت ألا تسقط .. حاولت أن تحفظ توازنها .. ولكن .................. سقطت بكفيها الرقيقتين في الآنية .. لم أسمع سوى صرخة ولم أعلم وقتها إذا كانت قد صرخت بالفعل أم أن صرختها خرجت من داخلي أنا
لم أرها تبك ِ .. أقسم أنها لم تفعل ذلك إلا مرة واحدة .. عندما مات أخوها ولا أدري كيف مات ، كل ما أعرفه أنهم أتوا به وقد فارقت روحه الجسد وقتها فقط رأيتها تبكي .. أمسكت بكفه الصغير الذي لا حياة فيه ووضعته على فمها وقبلته .. ثم انهمرت من عينيها الدموع .. ونهضت تاركه إياه كي يدفنوه ..
ومنذ ذلك اليوم لم أرَ غير سوادها ، كنت كلما نظرت إليها أشعر وكأن الأسود يخرج من داخلها ليصبغ ملامحها وملابسها ويصبغها هي الأخرى .. رغم صمتها أزدادت صمتا
- في قريتنا دائما تحدث الأشياء دون ضجة
في أحد الأيام بعد صلاة الفجر اكتشف الناس ذلك الجسد الضئيل الذي كان يطفو على سطح مجرى الماء بقريتنا
كان جسدها .. ولم أعلم حتى الآن كيف ماتت .. كل ما أعلمه إني ماعدت ألتزم الصمت بعد ذلك الحين
- في قريتنا يعرف الكل هذه القصة ولكن لا يتحدث أحدهُم إلى أحدهِم بها